السودان والإمارات: صدمة القطيعة وحقيقة الاحتياج
في خطوة غير متوقعة، أعلنت حكومة السودان قطع علاقاتها مع دولة الإمارات العربية المتحدة، ما أحدث زلزالاً في المشهد السياسي الإقليمي، وترك صدى مدويًا تجاوز الداخل السوداني ليطال حلفاء "الدويلة" من أصغر مؤيد في حزب "تقدم" إلى كبار قادة المشروع الإقليمي المتداخل. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا هذا الضجيج إذا كانت الخطوة ـ كما يدّعون ـ لا تضر بالإمارات؟
الصدمة التي عرّت التحالفات
الذين يقللون من أهمية الخطوة السودانية هم أنفسهم الذين ظلوا يهاجمون حكومة بورتسودان ويتمنون سقوطها. وإذا كانت القطيعة مع الإمارات ستضعف هذه الحكومة كما يزعمون، فلماذا يغضبون؟ المنطق البسيط يكشف التناقض: الإمارات بالنسبة لهم ليست دولة "لا تضر ولا تنفع"، بل هي محور أساسي لمشروعهم، ورئة يتنفسون منها المال والدعم السياسي والإعلامي.
وهنا تتجلى الصدمة التي لم يتوقعها "محور التبعية": السودان، ولأول مرة منذ سنوات، يرد بشكل صريح على التدخل الإماراتي في شؤونه، ويعلن أن سيادته ليست للبيع، ولا للمساومة.
من يحتاج إلى من؟
ما يجب التذكير به أن السودان، رغم ما يمر به من فقر وعوز نتيجة الحرب وانهيار الاقتصاد، يملك مقومات استراتيجية لا تملكها الإمارات: موقع جغرافي فريد، سواحل طويلة على البحر الأحمر، أراضٍ زراعية خصبة، موارد معدنية ضخمة، وثروة بشرية شابة. بينما تعتمد الإمارات على مورد ناضب هو النفط، وتسابق الزمن لبناء نفوذ استراتيجي قبل أن يتآكل اقتصادها الريعي.
إذا أسقطنا عامل النفط من المعادلة، فإن الإمارات هي التي تحتاج إلى علاقتها مع السودان، وليس العكس. تحتاجه كسوق، كمنفذ بحري، كمصدر غذاء، وكجسر نحو إفريقيا. وهذه الحقيقة يدركها محمد بن زايد جيدًا، ومن هنا جاء عمق الوجع.
ازدواجية المعايير... حين تعظ الإمارات بالديمقراطية
في دلالات هذا التخبط، جاء بيان الإمارات الذي وصف حكومة بورتسودان بأنها "غير شرعية"، وهو اتهام يكشف حجم التوتر داخل "الدويلة" بعد الخطوة السودانية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي المعايير التي تجعل بن زايد يحدد شرعية الحكومات؟
هل جاء هو نفسه عبر صناديق الاقتراع؟ هل لدى الإمارات برلمان حقيقي يستطيع محاسبة الحاكم؟ هل تسبح الإمارات في بحر حقوق الإنسان وحرية التعبير؟
الإجابة يعرفها الجميع. لذلك فإن توصيف حكومة السودان بعدم الشرعية من قِبل نظام سلطوي مغلق هو في حد ذاته شهادة على أن الحكومة تسير في طريق الاستقلال الحقيقي، وهو ما يزعج رعاة الأنظمة التابعة في المنطقة.
ادعاء الديمقراطية... وسقوط الأقنعة
من المثير للسخرية أن يخرج أنصار "تقدم" أو ما تُسمى "صمود" للدفاع عن الإمارات بوصفها دولة تسعى لـ"بناء الديمقراطية" في السودان. من الواضح أن فاقد الشيء لا يعطيه. فالإمارات، التي يحكمها رجل ورث الحكم عن أبيه، وتكمم أفواه معارضيها وتدعم الانقلابات في المنطقة، لا يمكن أن تكون حاملًا لمشروع ديمقراطي.
بل على العكس، وجود ديمقراطية حقيقية في السودان أو في أي دولة قريبة يهدد بنيتها السلطوية ويعرض نموذجها للخطر. فكيف لحركة سياسية تدّعي المدنية والديمقراطية أن ترتمي في حضن نظام لا يعرف من الديمقراطية سوى اسمها؟ هذا هو السؤال الذي يقدح في مصداقية تلك الحركات، ويكشف حدود استقلالها وولائها.
الخلاصة
الضجة المفتعلة حول خطوة قطع العلاقات مع الإمارات ليست إلا انعكاسًا لهول المفاجأة وارتباك المشروع الذي ظل يعمل في الظل. السودان قال كلمته، وربما تكون هذه أولى خطوات استعادة قراره السيادي، بعيدًا عن المال السياسي والتدخل الخارجي.
وإذا كانت هذه الخطوة بلا تأثير كما يدّعون، فلماذا اهتزت لها عواصم، وانكشفت بها تحالفات؟